Friday, August 01, 2008

WASIAT IMAM FAKHR ADDIN AL RAZI

نسخة وورد

خواطر حول

وصية الإمام فخر الدين الرازي

رحمه الله تعالى



بقلم

الأستاذ العلامة سعيد فودة

حفظه الله تعالى







بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، أما بعد ،،



قال صاحب طبقات الشافعية الكبرى الإمام المحقق ابن السبكي: (8/90)

أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، إذناً خاصاً، أخبرنا الكمال عمر بن إلياس بن يونس المَرَاغي، أخبرنا التقي يوسف أبي بكر النسائي بمصر، أخبرنا الكمال محمود بن عمر الرازي، قال: سمعت الإمام فخر الدين يوصي بهذه الوصية لما احتُضِر لتلميذه إبراهيم بن أبي بكر الأصبهاني.

يقول العبد الراجي رحمة ربِّه، الواثق بكرم مولاه، محمد بن عمر بن الحسن الرازي، وهو أول عهده بالآخرة وآخر عهده بالدنيا، وهو الوقت الذي يلين فيه كل قاسٍ، ويتوجه إلى مولاه كل آبق.

أحمد الله بالمحامد التي ذكرها أعظم ملائكته في أشرف أوقات معارجهم ونطق بها أعظم أنبيائه في أكمل أوقات شهاداتهم، وأحمده بالمحامد التي يستحقها، عَرَفتها أو لم أعرفها، لأنه لا مناسبة للتراب مع ربِّ الأرباب.

وصلواته على ملائكته المقربين، والأنبياء والمرسلين، وجميع عباد الله الصالحين،

اعلموا أخلاّئي في الدين، وإخواني في طلب اليقين أن الناس يقولون: إن الإنسان إذا مات انقطع عمله وتعلقه عن الخلق، وهذا مخصص من وجهين الأول أنه إن بقي سنة عمل صالحٌ صار ذلك سبباً للدعاء والدعاء له عند الله تعالى أثر، الثاني ما يتعلق بالأولاد وأداء الجنايات.

أما الأول فاعلموا أني كنت رجلاً محباً للعلم، فكنت أكتب من كلِّ شيء شيئاً لأقف على كميته وكيفيته، سواءً كان حقاً أو باطلاً، إلا أن الذي نطق به في الكتب المعبتر، أن العالم المخصوص تحت تدبير مُدَبِّره المنـزه عن مماثلة التمحيزات، موصوف بكمال القدرة والعلم والرحمة، ولقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتُ فيها فائدةً تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال لله، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات. وما ذاك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى في تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفيّة، فلهذا أقول:

كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة مِنْ وجوب وجوده ووحدته، وبراءته عن الشركاء كما في القدم والأزلية والتدبير والفعالية، فذلك هو الذي أقول به، وألقى الله به، وأما ما ينتهي الأمر فيه إلى الدقة والغموض، وكل ما ورد في القرآن والصحاح المتعين للمعنى الواحد فهو كما قال، والذي لم يكن كذلك أقول:

يا إله العالمين، إني أرى الخلق مطبقين على أنك أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين فكل ما مدَّه قلمي أو خطر ببالي: فأستشهد وأقول: إن علمتَ مني أني أردتُ به تحقيق باطل أو إبطال حق، فافعل بي ما أنا أهله، وإن علمت مني أني ما سعيتُ إلا في تقديسٍ اعتقدت أنه الحق، وتصورت أنه الصدق. فلتكن رحمتك مع قصدي لا مع حاصلي، فذلك جُهْدُ المِقلِّ، وأنت أكرم من أن تضايق الضعيف الواقع في ذلة، فأغثني وارحمني واستر زلتي واهج حَوْبتين يا مَنْ لا يزيد ملكه عرفانُ العارفين، ولا ينقص ملكه بخطا المجرمين، وأقول:

ديني متابعة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وكتابي القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليها، اللهم يا سامع الأصوات، ويا مجيب الدعوات وما مقيل العثرات أنا كنت حسن الظن بك، عظيم الرجاء في رحمتك وأنت قلت: أنا عند ظن عبدي بي. وأنت قلت "أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه" فهب أني ما جئت بشيء فأنت الغني الكريم، فلا تخيِّب رجائي، ولا تردَّ دعائي، واجعلني آمناً من عذابك قبل الموت وبعد الموت وعند الموت، وسهَّل عليَّ سكرات الموت، فإنك أرحم الراحمين.

وأما الكتب التي صنفتُها، واستكثرتُ فيها من إيراد السؤالات فليذكرني مَنْ نظر فيها بصالح دعائه، على سبيل التفضل والإنعام، وإلا فيحذف القول الشيء، فإني ما أردت إلا تكثير البحث، وشحذ الخاطر، والاعتماد في الكل على الله.

الثاني: وهو إصلاح أمر الأطفال، فالاعتماد فيه على الله.

ثم إنه سرد وصيته في ذلك إلى أن قال:

وأمرت تلامذتي، ومَنْ لي عليه حق إذا أنا مِتُّ، يبالغون في إخفاء موتي، ويدفنوني على شرط الشرع، فإذا دفنوني قرأوا علي ما قدروا عليه من القرآن، ثم يقولون: يا كريم، جاءك الفقير المحتاج، فأحسن إليه هذا آخر الوصية. انتهى كلام ابن السبكي.

أقول:

فانظر رحمك الله إلى هذه الوصية ما أدق معانيها، وأحلى مبانيها، وهي تدل على عمق علم الرازي، وحسن توكله على الله تعالى، وإخلاصه له في عمره كله إلى أن مات.

والإمام الرازي معلومٌ مَنْ هو، ولا يحط مِنْ قدره إلا مَنْ على قلوبهم غبَشٌ وانحراف، ولا يعرف حقيقة فضله إلا مَنْ طالع كتبه مريداً الاستفادة.

والإمام ابن الخطيب معلومٌ لدى الكافة أنه على طريقة الأشعري في الاعتقاد، بل هو الذي أسس من المتأخرين قواعد الطريقة وحقق مسائلها وردّ على مخالفيها، نشرهافي البلاد حتى اعتمدت كتبُه في معظم الأقطار ونسي الناس كتب المتقدمين، وعكفوا على كتبه، لجودتها ودقتها وحسن ترتيبها، وهذا كله معلوم.

ولكن، بعض الناس ممن لا تحصيل عندهم في علم أصول الدين، والذين لم تتشذب نفوسهم بمطالعة كتب القوم، وهؤلاء يتميزون بجلاقة في الطباع، وركاكة في الدماغ، وتعصب ظاهر - يدعون أنهم مجتهدون، وحقيقة حالهم التقليد الأعمى، وهؤلاء يغلب عليها التجسيم والتشبيه إما بلسان الحال أو المقال. هؤلاء الناس أجزم أنهم لا يتذوقون كلمات الإمام، ولا يعرفون من حاله إلا ما يسمعون ممن هو مثلهم في الصفات، وهم في هذا كاذبون.

وهؤلاء الناس، لم يظهروا في هذه الأوقات فقط، بل كانوا يظهرون ما بين زمان وزمان، عندما يجدون شوكةً تدافع عنهم وتحمي أغلوطاتهم مِن شوكات الحكام، ينبزون في مختلف الأعصار يدعون أنهم يسيرون على طريق السلف الصالح، وأنهم على عقيدة الإمام أحمد، وهم منهم براءٌ. وحالهم حقيقة ما وصفناه، بعيدون عن تذوق الحقائق، والشعور بالرقائق، قساة أجلاف.

وإحفاد هؤلاء، برزوا في هذا الزمان، تدعمهم بعض الدول، لمصالح سياسية لا تخفى على نبيه، وسبق أن نبهنا إليها، يستغلهم بعض الحكام وهؤلاء يسيرون خلفهم كالبله والعميان، ويوهمون الناس أنهم على شيء وليسوا هم على شيء.

ولا نريد أن نسترسل في وصف أحوالهم، فنحيد عن المقصود، فنقول وبالله التوفيق:

كثيراً ما سمعت منذ بداية مطالعاتي، منذ سنين عديدة، وكذا قرأتُ من كتب لبعض الناس مثل ابن تيمية وابن القيم، وغيرهم ممن سار على نهجهم أن الرازي كان على عقيدة، ثم غيرها في آخر حياته وتراجع عنها وكتب هذا في وصيته لطلبته !!

وأنا كنتُ في بداية الطلب أستغرب هذا، فالرازي الذي له هذا التفسير الذي يدل على علم واسع وعقل نبيه، وله كتب عديدة تدل على فضله ودقة تفكيره، هل كان في كل هذه الكتب على خطأ لم يتنبه إليه إلا عند الممات هذا غريب!!

أنا لا أنكر أنه ممكن، ولكنه يبقى غريباً، ولغرابته فالأصل في الإنسان الذي يسير على قواعد مطَّردة في النظر والتدبر أن لا يصدقه لأول نظرة، وإن كان الراوي ابن تيمية، هذا ما كنت أقوله في أيام صباي، وزاد هذا المعنى ثباتاً في نفسي ما صرتُ أعلمه وأتبينه على مر الأيام من أن ابن تيمية وغيره ممن يتبعه يخالف منهج الإمام الرازي في العقائد، بل هو تقريباً ضدٌّ له، ولما اتضح لي هذا المعنى، صرتُ لا أستبعد أن ابن تيمية يروج هذا القول وغيره في كتبه، لا لأن الرازي فعلاً تراجع عما كان يعتقد، بل ليستطيع ابن تيمية أن يتخذ من هذه الحادثة إن صحت -وهي لا تصح كما سنرى- مِعوَلاً يهدم به مذهب الرازي، ليتهيأ له أن يبني ما يريد بعد ذلك.

وبدا لي هذا التفسير في تلك الأيام منطقياً معقولاً، لا سيما وأنني كنت أقرأ لابن تيمية كثيراً، وكذلك للرازي، وكنتُ أرى الكثير من المسائل التي ينتقد فيها ابن تيمية الإمام الرازي غير محق فيها، وكان في بعض الأحيان يصور مراد الرازي على غير حقيقته، وأحياناً يبالغ في الرد عليه.

هذا كله وغيره كثير كان يخطر في خاطري في تلك الأيام، ولكن لم أكن مستطيعاً لإثبات التراجع أو ضده بشكل قطعي ولكن ترجيحاً، وسبب هذا أنني لم أطلع علىوصية الإمام، حتى حصلت على قِطَعٍ منها في بعض الكتب، وكان يترجح لي من هذه القطع أن الرازي لم يتراجع، وما نسبه التراجع إليه إلا تلبيس كما مضى، ولكن لم أستطع الجزم بعد التراجع، لأني لم استطع الحصول على النص الكامل للوصية.

وكنت عند هذا مطمئناً إلى ما وصلت إليه من الحكم، ولكن كنت أتمنى أن أحصل على النص الكامل ليزداد هذا الاطمئان.

وبقيت هكذا فترة، حتى يسر الله تعالى لي الحصول على قطعة كافية من الوصية، في كتاب الطبقات الكبرى لابن السبكي رحمه الله تعالى، وعندما ألقيتُ عليها نظرة أطمأن قلبي وجزمتُ بما كنت قد توصلت إليه بالنظر، واكتفيت بهذا.

ولكن قلت بعد مدَّةٍ، لا بد أن أوثق هذا الكلام كله لكي يكون حجة على كل من يخوض في هذا الأمر، فكتبت هذه الكلمات.

أقول –وبالله التوفيق-:

لقد بالغ هؤلاء "المتمسلفون" في ادعاءاتهم وشذوذهم، وبالغوا في المماداة في أغلاطهم، حتى تعدّوا على أئمة الإسلام واتهموهم زوراً وبغير وجه حق.

وقد رأينا تهافت ما ادعوا في حق الإمام الجويني، وما كذبوا به على الإمام السنوسي، وعندي الكثير من هذه المفتريات على العديد من الأئمة أدعوا الله تعالى أن يوفقني إلى تلخيصها لتكون شاهدة على افترائهم، وسنبين الآن ما يتعلق بالإمام الرازي رحمه الله تعالى.

يدَّعون أن الإمام الرازي تراجع عن مذهب الأشاعرة في مسألة الصفات والنصوص المعلومة التي يجري فيها الخلاف.

هذا هو مدعاهم، ويجب علينا نحن قبل أن نقول كلمتنا أن نوضح مدعاهم هذا ثم بعد اتضاحه فأنا أجزم أن تهافته سيظهر لكل من له عقلٌ سليم.

أولاً: يجب أن نُعَرِّف بمذهب الأشاعرة في هذه المسألة. فنقول:

مذهب أهل السنة والجماعة كلهم ومنهم الأشاعرة أن الله تعالى لا يشابه أحداً من خلقه، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. وإن كل ما خطر على قلب بشر من صورة أو كيفية فيجب نفيه عنه تعالى، لأن الصورة والكيف منتفيان في الأصل عنه تعالى.

وهم يقولون بتنـزيه الله تعالى عن صفات البشر والحوادث والأجسام وكل ما يلزم عن كون الشيء جسماً وهي لوازم الأجسام مثل: الكون في الأمكنة والحركة والحجم والكيف والتركيب وغير ذلك.

وبناءً على هذا فالنصوص التي نقرأها في الكتاب والسنة، فيتوهم منها بعض الناس معنى لا يليق بالله تعالى مما مضى وغيره، ويقولون إن هذا هو الظاهر من هذه النصوص، فنقول: ليس هذا هو الظاهر، بل هذا هو ما تتخيله أنت ظاهراً، ولا ظاهرٌ إلا الحق، فتعالى الله تعالى أن يجعل كلامه ظاهراً في أمرٍ باطلٍ، وإنما الباطل هنا هو التوهم الذي ظهر في نفسك، وما هذا إلا لأنك ردئ فكرٍ وغير مدرك لأقلِّ ما يجب إثباته لله تعالى، فالظاهر إنما هو وهمٌ قام في فكر إنسانٍ جلف الطباع، تصور لطباعه هذه إن هذا المعنى هو الظاهر من النص.

فلما ظهرت هذه المشكلة عند فساد تذوق الناس للغة العربية وضعف عقائدهم في الله تعالى وغلبة الأمور الحسية والتوهمات النفسية، احتاج العلماء إلى أسلوب يعالجون به هذه المشكلة، ويكون هذا الأسلوب واضحاً متميزاً مدرَكاً مضبوطاً بقواعد تنسجم مع اللغة والأمور الصحيحة المعلومة من الدين بالضرورة، ويكون سهلاً ودقيقاً في نفس الوقت، متلائماً مع ما كان عليه السلف الصالح المشهود لهم بالخيرية، ملائماً لطباع عامة الناس قدر الاستطاعة.

فتوصل علماء الأمة من الأشاعرة إلى توضيح مذهب محقق لكل هذه الشروط متكون من مرتبتين: الأولى وهي الأصل سموها التفويض، والثانية وهذه لا يلجأ إليها إلا عند الحاجة سموها التأويل، كلا هاتين المرتبتين حقٌّ ولا تعارض بين الواحدة والأخرى.

ومعنى التفويض: هو تفويض هذه النصوص إلى الله تعالى وعدم الخوض فيها والإيمان بها على سبيل الإجمال، أي الإيمان بما علم الله أنه الحق، وإمرارها كما جاءت بلا كيف ولا معنى، مع تنـزيه الله تعالى عن الاتِّصاف بشيء من سمات نقص كما مر، وهذا هو الذي كان عليه جمهور السلف، كانوا لا يخوضون في هذه الأمور ولا يتكلمون فيها، بل ينهون عامة الناس عن الكلام فيها، ويأمرونهم بتنـزيه الله تعالى عن سمات النقص.

والمرتبة الثانية وهي التأويل ومعناها: هي أن اللفظ الذي توهم بعض الناس أن ظاهره هو التجسيم والتشبيه وإثبات الجوارح والأدوات والحركات وغير ذلك من معاني باطلة، وقد بيّنا نحن كيف توهم هؤلاء الناس هذا الوهم، ولما كان بعض الناس لا يكتفون بالطريق الإجمالي في تنـزيه الله كما مر في مرتبة التفويض، إمّا لفساد معتقدهم كالحشوية، أو لأنهم مفسدون في الدين ويستغلون هذه النصوص في التشكيك في أصول التوحيد ليسهل عليهم بعد ذلك نشر مذاهبهم الباطلة، أقول لما كانت هذه الأصناف موجودة في الناس ولا يخلو زمان منها، احتج إلى أسلوب تفصيلي لصدِّ مَنْ كانت هذه حالة. يتم بهذا الأسلوب تفهيمه أن اللفظ ليس ظاهره ما فهمته ولا هو ما تبادر إلى ذهنك أو توهمته، مما هو تشبيه محض مضاد للتوحيد، بل الظاهر هو معنى يليق بالله تعالى، ويتم بيان هذا الأمر لهؤلاء الناس بواسطة أسلوب التأويل الذي حاصله: أنه صرف اللفظ عن ظاهره المتوهم لمدى الأنفس الخبيثة أو الجلفة إلى معنى صحيح لقرينةٍ، وهذه القرينة إما أن تكون لفظية أو حالية.

وتفصيل هذا الأسلوب موضح في المطوَّلات، وقد لجأ بعض السلف إلى هذا الأسلوب لما واجهوا الحالات التي ذكرناها.

ومما مضى تبين أن كلا من الأسلوبين أو المرتبتين حق صريح ووارد عن السلف الصالح ولا تناقض بينهما؛ لأنهما في الحقيقة تكملان بعضهما البعض.

ويلاحظ من شرحنا لهذين الأسلوبين أنَّ الأصل هو التفويض، ولا يلجأ إلى الثاني إلا لأسباب إما تفهيم قاصرٍ عن إدراك الحق أو ردّ شبهة لمشكك خبيث الطبع والقصد؛ لغاية إعزاز الدين وإظهار أنه الحق الذي لا عوج فيه.

ما دام المذهب قد اتضح، وتجلى أنه بالحق صرح، نعود إلى الكلام عن الإمام فخر الدين الرازي، فنقول: هذا هو الذي كان عليه فخر الدين الرازي، وهذا هو الذي مات عليه الإمام، لم يحدث أنَّه تراجع عن هذا كله، ولا عن بعض منه. وبيان هذا كما يلي:

كان الإمام فخر الدين في بداية حياته ولدى اشتهاره وقبل حيون وفاته كثير المناظرات مع المبتدعة من الحشوية وغيرهم ممن ضل عن فهم المعنى الحق، وكان يجول في البلدان يتحدى من خالف مذهب الإسلام فيناظره ويبين له سقم كلامه وضعف حجته وبيانه.

ومعظم كتبه التي كتبها في حياته إما كانت رداً على الحشوية أو الفلاسفة أو على من غلط من المعتزلة وغيره من الناس.

ولم يصمد أمامه إنسان، فأخرس الألسنة وأزال الباطل وثبت دعائم الحق، على حسب الطاقة، رحمه الله.

والرجل عندما يكون هذا حاله لا بد أن يتمسك بأسلوب التأويل، الذي مرَّ بيانه فلا يمكن عند المناظرة مع هؤلاء الناس أن يقول لهم –خصوصاً الحشوية لأن الخلاف إنما هو معهم في هذه المسألة- فوِّضوا العلم إلى الله تعالى، كيف وهم يعتقدون أن ما يقولون به إنما هو كلام الله تعالى والظاهر الصريح الذي لا يجوز العدول عنه إلى غيره، بل لا بدَّ مِنْ بيان أن الأمر الذي يدعون أنه ظاهرٌ وواضح، هو في الحقيقة باطل لا شك في هذا، وهذا لا يتم إلا باستعمال أسلوب التأويل، فهو الآلة التي تذبح بها خِرَاف الباطل. وهذا هو ما كان عليه الإمام في عامة كتبه لأن حالة الناس الذين كان يواجههم كانت تفرض عليه ذلك.

فلما اقتربت الوفاة، وحان الانتقال إلى الدار الآخرة، عاد الإمام الفخر الرازي إلى الأصل، لأنَّ مطلوب المرء في تلك الحال إنما هو السلامة، وتفويض الأمر إلى الله تعالى هو السلامة، وقد بيَّنا ذلك في الرد على الشوكاني في رسالته التحف، فلتنظر هناك.

والناظر في وصيته المذكورة لا يرى فيها ثبرياً من مذهبه الذي كان عليه، بل يرى منها تفويض أمره إلى الله تعالى، والاعتراف بأنه لم يكن ليخوض في ما خاض فيه إلا اعزازاً للدين واستجابة لأمر الله تعالى بالذب عنه ضد الزائغين والمعتدين، فهو يتبرأ من كل خطأ وقع فيه لا على التعيين ويرجو أن يرحمه الله تعالى بما وفقه فيه من الإصابة. وهذا الحال هو حال المخلصين.

وهو ينبه في الوصية إلى أن أسلوب القرآن في تبليغ التوحيد هو خير الأساليب، وكيف ينكر هذا إنسانٌ والقرآن كلام الله تعالى ؟! ولكن الإنسان مطلوب منه الدفاع عن هذا الدين بقدر وسعه وطاقته. وبعد هذا أقول لمن أراد الحق:

أين ذكر الإمام الرازي في وصيته أنه تراجع عن مذهبه ؟

هل قال الإمام الرازي رحمه الله: إن الله في مكان وله حدٌّ وله جارحة إلى غير هذا من الترهات والتشبيه الذي تمتلئ به نفوس من يغلطون عليه ؟

كيف يقول بهذا وهو ينص في وصيته على "أن العالم المخصوص تحت تدبير مُدَبِّره المنـزه عنه مماثلة التحيزات" هذا كلامه، وهو نفىٌ صريح في أن الله ليس في مكان ولا في جهة ولا له بعض ولا أعضاء. وهذه هي الأمور التي يدعي هؤلاء الناس من الأغبياء أن الرازي رجع إليها، ونحن نرى من صريح كلامه أنه نفاها.

ونـزيد هنا كلاماً لمن أراد أن يستفيد:

الإمام الرازي كان يدعو إلى التفويض حتى قبل كتابة هذه الوصية أي في أثناء مصاولته للناس ومناظرته معهم، وعلى هذا لا يكون هناك أي وجه لكلام المتسلفة الأغبياء، ودليل هذا أنه قال في كتاب المعالم: "… فلم يبق إلا الإقرار بمقتضى الدلائل العقلية القطعية، وحمل الظواهر النقلية إما على التأويل وإما على تفويض علمها إلى الله سبحانه وتعالى، وهو الحق" هذا كلامه في هذا الكتاب، وهو صريح أنه لا يقول بحرمة التفويض ولا بحرمة التأويل، ولكنه ترجح لديه أن التفويض هو الحق أي الأرجح وذلك لما ذكرناه من أنه الأسلم.

وذكر أيضاً هذا المعنى في كتاب الأربعين "… فلم يبق إلا أن تصدق الدلائل العقلية ويشتغل بتأويل الظواهر النقلية أو يفوض علمها إلى الله" هذا هو كلامه الذي يقطع كلام كل إنسانٍ بعده، فالأشاعرة عندهم فيما بينهم خلاف هل التأويل أرجح أو التفويض مع اتفاقهم على تنـزيه الله تعالى. أما خلافهم مع غيرهم من الحشوية ومع أذيال هؤلاء من المتمسلفة في هذا الزمان فهو دائر بين التنـزيه الذي يقول به الأشاعرة وأهل السنة، وبين التشبيه والتجسيم الذي يقول به هؤلاء، خذلهم الله تعالى.

وبهذا يكون قد ظهر بحول الله وقوته تهافت مَن ادعى أنَّ الإمام الرازي قد تراجع عن مذهبه، وبأن هذا ما هو الأكذب على أهل الحق

والحمد لله رب العالمين

13/8/1992م